لقد بدأ عثمان يوسع إمارته فتمكن أن يضم إليه عام 688 قلعة قره حصا (القلعة السوداء) أو أفيون قره حصار ، فسر الملك علاء الدين بهذا كثيراً. فمنحه لقب (بيك). والأراضي التي يضمها إليه كافة ، وسمح له بضرب العملة ، وأن يذكر اسمه في خطبة الجمعة.
وفي عام 699 أغارت المغول على إمارة علاء الدين ففر من وجههم ، والتجأ إلى إمبراطور بيزنطية ، وتوفي هناك في العام نفسه ، وإن قيل أن المغول قد تمكنوا من قتله ، وتوليه ابنه غياث الدين مكانه ، ثم إن المغول قد قتلوا غياث الدين ، ففسح المجال لعثمان إذ لم تعد هناك سلطة أعلى منه توجهه أو يرجع إليها في المهمات ، فبدأ يتوسع ، وإن عجز عن فتح أزميد (أزميت) ، وأزنيق (نيقية) رغم محاصرتهما ، واتخذ مدينة (يني شهر) أي المدينة الجديدة قاعدة له ، ولقب نفسه باديشاه آل عثمان.
واتخذ راية له ، وهي علم تركيا اليوم ، ودعا أمراء الروم في آسيا الصغرى إلى الإسلام ، فإن أبوا فعليهم أن يدفعوا الجزية ، فإن رفضوا فالحرب هي التي تحكم بينه وبينهم ، فخشوا على أملاكهم منه ، فاستعانوا بالمغول عليه ، وطلبوا منهم أن ينجدوهم ضده ، غير أن عثمان قد جهز جيش بإمرة ابنه أورخان الذي قارب الثلاثين من العمر ، وسيره لقتال المغول فشتت شملهم .
ثم عاد واتجه إلى بورصة (بروسة) فاستطاع أن يدخلها عام 717 وتعد من الحصون الرومية المهمة في آسيا الصغرى ، وأمن أهلها وأحسن إليهم فدفعوا له ثلاثين ألفاً من عملتهم الذهبية ، وأسلم حاكمها (أفرينوس) ، فمنحه عثمان لقب بيك ، وأصبح من القادة العثمانيين البارزين. وتوفي عثمان عام 726 ، وقد عهد لابنه أورخان بالحكم بعده.
أهم الصفات القيادية في عثمان :
1- الشجاعة : عندما تنادى أمراء النصارى في بورصة ومادانوس وأدره نوس وكته وكستله البيزنطيون في عام 700هـ لتشكيل حلف صليبي لمحاربة عثمان واستجابت النصارى لهذا النداء وتحالفوا تقدم عثمان بجنوده وخاض الحروب بنفسه وشتت الجيوش الصليبية وظهرت منه شجاعة أصبحت مضرب المثل .
2- الحكمة : لقد رأى من الحكمة أن يقف مع السلطان علاء الدين ضد النصارى ، وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة ، وعدة قلاع حصينة ، ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين. وسمح له سك العملة باسمه ، مع الدعاء له في خطبة الجمعة في المناطق التي تحته.
3- الإخلاص : عندما لمس سكان الأرضي القريبة من إمارة عثمان إخلاصه للدين تحركوا لمساندته والوقوف معه لتوطيد دعائم دولة إسلامية تقف سداً منيعاً أمام الدولة المعادية للإسلام والمسلمين.
4- الصبر : وظهرت هذه الصفة في شخصيته عندما شرع في فتح الحصون والبلدان ، ففتح في سنة 707هـ حصن كته ، وحصن لفكة ، وحصن آق حصار ، وحصن قوج حصار. وفي سنة 712هـ فتح صحن كبوه وحصن يكيجه طرا قلوا ، وحصن تكرر بيكاري وغيرها ، وقد توج فتوحاته هذه بفتح مدينة بروسة في عام 717هـ ، وذلك بعد حصار صعب و شديد دام عدة سنوات ، كان من أصعب ما واجهه عثمان في فتوحاته.
5- الجاذبية الإيمانية : وتظهر هذه الصفة عندما احتك به اقرينوس قائد بروسه واعتنق الإسلام أعطاه السلطان عثمان لقب (بك) وأصبح من قادة الدولة العثمانية البارزين فيما بعد ، وقد تأثر كثير من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه الذي سار عليه حتى امتلأت صفوف العثمانيين منهم ، بل إن كثيراً من الجماعات الإسلامية انخرطت تحت لواء الدولة العثمانية كجماعة (غزياروم) أي غزاة الروم ، وهي جماعة إسلامية كانت ترابط على حدود الروم وتصد هجماتهم عن المسلمين منذ العصر العباسي ، وجماعة (الإخيان) (أي الإخوان) وهم جماعة من أهل الخير يعينون المسلمين ويستضيفونهم ويصاحبون جيوشهم لخدمة الغزاة ويتولون إقامة المساجد والتكايا و الفنادق، وجماعة (حاجيات روم) أي حجاج أرض الروم ، وكانت جماعة على فقه بالإسلام ومعرفة دقيقة لتشريعاته ، وكان هدفها معاونة المسلمين عموماً والمجاهدين خصوصاً وغير ذلك من الجماعات.
6- عدله : تروى معظم المراجع التركية التي أرخت للعثمانيين أن أرطغرل عهد لابنه عثمان مؤسس الدول العثمانية بولاية القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام 684هـ ، وأن عثمان حكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي ، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان : كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك ، فأجابه عثمان : بل كيف لا أحكم لصالحك ، والله الذي نعبده ، يقول لنا : ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) فاهتدى الرجل وقومه إلى الإسلام. لقد عثمان استخدم العدل مع رعيته وفي البلاد التي فتحها ، فلم يعامل القوم المغلوبين بالظلم أو الجوار أو التعسف أو التجبر ، أو الطغيان ، أو البطش .
7- الوفاء : كان شديد الاهتمام بالوفاء بالعهود ، فعندما اشترط أمير قلعة اولوباد البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني ، أن لا يمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم إلى داخل القلعة التزم بذلك وكذلك من جاء بعده.
8- التجرد : فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك ، بل كان فرصة تبليغ دعوة الله ونشر دينه ولذلك وصفه المؤرخ احمد رفيق بأنه (كان عثمان متديناً للغاية ، وكان يعلم أن نشر الإسلام وتعميمه واجب مقدس وكان مالكاً لفكر سياسي واسع متين ، ولم يؤسس عثمان دولته حباً في السلطة وإنما حباً في نشر الإسلام). ويقول مصر أوغلو : " لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيماناً عميقاًً بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ، وقد كان مندفعاً بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف .
لقد كانت شخصية عثمان متزنة وخلابة بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الآخر ، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته ، ولا سلطانه على رحمته ، ولا غناه على تواضعه ، وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه ، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة ، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار ، لقد كانت رعاية الله له عظيمة ولذلك فتح له باب التوفيق وحقق ما تطلع إليه من أهداف وغاية سامية .
الدستور الذي سار عليه العثمانيون :
كانت حياة الأمير عثمان جهاداً ودعوة في سبيل الله ، وكان علماء الدين يحيطون بالأمير ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة، ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه أورخان وهو على فراش الموت وكانت تلك الوصية فيها دلالة حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعد، يقول عثمان في وصيته : ( يا بني : إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين ، وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً.. يا بني : أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود ، ولا يغرك الشيطان بجندك وبمالك ، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة.. يا بني : إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين ، وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق ، فتحدث مرضات الله جل جلاله .. يا بنى : لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة الحكم أو سيطرة أفراد ، فنحن بالإسلام نحيا ونموت ، وهذا يا ولدي ما أنت له أهل) .
وفي كتاب (التاريخ السياسي للدولة العلية العثمانية) تجد رواية أخرى للوصية ( اعلم يا بني ، أن نشر الإسلام ، وهداية الناس إليه ، وحماية أعراض المسلمين وأموالهم ، أمانة في عنقك سيسألك الله عز وجل عنها) .
وفي كتاب ( مأساة بني عثمان ) نجد عبارات أخرى من وصية عثمان لابنه أورخان تقول : ( يا بني ، أنني انتقل إلى جوار ربي ، وأنا فخور بك بأنك ستكون عادلاً في الرعية ، مجاهداً في سبيل الله ، لنشر دين الإسلام.. يا بني ، أوصيك بعلماء الأمة ، أدم رعايتهم ، وأكثر من تبجيلهم ، وانزل على مشورتهم ، فانهم لا يأمرون إلا بخير.. يا بني ، إياك أن تفعل أمراً لا يرضى الله عز وجل ، وإذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة ، فانهم سيدلونك على الخير.. واعلم يا بني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله ، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله ، وأننا لسنا طلاب جاه ولا دنيا ).
وفي (التاريخ العثماني المصور) عبارات أخرى من وصية عثمان تقول: ( وصيتي لأبنائي وأصدقائي ، أديموا علو الدين الإسلامي الجليل بإدامة الجهاد في سبيل الله . أمسكوا راية الإسلام الشريفة في الأعلى بأكمل جهاد. اخدموا الإسلام دائما ، لأن الله عز وجل قد وظف عبداً ضعيفاً مثلي لفتح البلدان ، اذهبوا بكلمة التوحيد إلى أقصى البلدان بجهادكم في سبيل الله ومن انحرف من سلالتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر. يا بني: ليس في الدنيا أحد لا يخضع رقبته للموت ، وقد اقترب أجلي بأمر الله جل جلاله أسلمك هذه الدولة وأستودعك المولى عز وجل ، اعدل في جميع شؤونك ...).
لقد كانت هذه الوصية منهجاً سار عليه العثمانيون، فاهتموا بالعلم وبالمؤسسات العلمية، وبالجيش والمؤسسات العسكرية، وبالعلماء واحترامهم ، وبالجهاد الذي أوصل فتوحاً إلى أقصى مكان وصلت إليه راية جيش مسلم ، وبالإمارة وبالحضارة .