صعد محمد علي لحكم مصر بفضل السيد "عمر مكرم" نقيب الأشراف، حيث كان له حضور طاغ وكلمة مسموعة لدى الشعب الذي رأى فيه زعامة وطنية تهدف الصالح العام لا المصلحة الشخصية، وكان السيد ملجأ الشعب حينما يتعرض للمحن أو الظلم. ولم يكن صعود "عمر مكرم" إلى قمة الزعامة الشعبية في مصر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي صعودًا مفاجئًا، بل كان صعوده تدريجيًّا التصق فيه الرجل بالشعب مستمدًا منه قوته ومكانته.
ولد "عمر مكرم" حوالي (1164هـ = 1750م) في أسيوط، ثم انتقل إلى "القاهرة" للدراسة في الأزهر الشريف، وعندما أنهى دراسته ولج غمار الحياة العامة، فعين نقيبًا للأشراف سنة (1208هـ = 1793م)، وهي نقابة تضم المنتسبين لآل البيت، ويطلق على نقيبها لقب "السيد"، ويتمتع بمكانة عالية عند العامة والخاصة، وله نصيب موفور من التقدير والاحترام.
زعامة شعبية
ظهر "عمر مكرم" كقائد شعبي عام (1210هـ = 1795م) عندما قاد حركة شعبية ضد ظلم الحاكمين المملوكيين "إبراهيم بك" و"مراد بك"، وكان مطلب هذه الحركة "العدل وإقامة الشرع"، واستطاع أن يخفف الضرائب عن المصريين.
وعندما ابتليت مصر بالحملة الفرنسية في (1213هـ= 1798م) استنفر "عمر مكرم" الشعب للقتال والجهاد، وبث روح المقاومة في المصريين، وخرج بجموع غفيرة للقتال، لكن المماليك كانوا أبعد ما يكونون عن أسلوب ذلك العصر في القتال واستخدام الأسلحة الحديثة، فكانت هزيمتهم النكراء في "معركة إمبابة" التي تحمل الشعب أغلب تضحياتها. قرر "عمر مكرم" الرحيل عن القاهرة واتجه إلى "بلبيس"، وكان وجوده فيها عاملا رئيسيًّا في إثارة مديرية الشرقية ضد الفرنسيين. وبعد هزيمة الصالحية في (ربيع أول 1213هـ = أغسطس 1798م) ارتحل إلى "العريش"، ومنها إلى "غزة"، فصادر "نابليون بونابرت" أمواله، وعزله عن "نقابة الأشراف"، ثم ألقي القبض عليه في "يافا"، فالتقى به "نابليون"، ثم وُضع تحت الإقامة الجبرية في "دمياط"؛ فكان الشعب يتردد عليه، ثم انتقل إلى "القاهرة" واعتكف فترة عن الحياة السياسية. وكان من حنكته وذكائه السياسي أنه لم يشارك الفرنسيين في احتفالاتهم بالمولد النبوي حتى لا يضفي شرعية على وجودهم في مصر.
شارك في "ثورة القاهرة الثانية"، وكان من زعمائها البارزين، وذكر "الجبرتي" في تاريخه "عجائب الآثار" أن "السيد عمر أفندي مكرم نقيب الأشراف خرج وتبعه كثير من العامة" واستمرت هذه الثورة ثلاثة وثلاثين يومًا، إلا أنها فشلت؛ فرحل إلى الشام، ولم يعد إلا مع الجيش العثماني الذي دخل القاهرة في (4 ربيع أول 1216هـ = 1801م). ثورة مايو 1805
عمت الفوضى السياسية مصر بعد خروج الفرنسيين، وتسابق الجميع للسيطرة على حكم البلاد، وفي ظل هذا التسابق المحموم للسلطة تكون الشعوب هي الضحية، وعندما استقر الحكم للوالي العثماني "أحمد خورشيد" نزع إلى الظلم والشطط في فرض الضرائب حتى ضج الشعب؛ فنصحه "عمر مكرم" وعدد من المشايخ والعلماء بتحري العدل، ولكنه أبى ذلك، فقاد عمر ثورة شعبية مسلحة ضد هذا الحاكم المستبد، واستنفر الشعب لحمل السلاح، فلبى الشعب النداء، وحاصر الحاكم في قلعته، وبعد قتال عنيف انكسر خورشيد، واستطاع الشعب أن يعزله عن الحكم، ويولي حاكمًا جديدًا هو "محمد علي"، ذلك الضابط الألباني الذي أظهر تعاطفًا مع المصريين.
وظهرت في هذه الثورة العارمة القدرات السياسية والقيادية لعمر مكرم؛ ففي حوار عاصف بينه وبين أحد أعوان خورشيد حول وجوب طاعة أولي الأمر، قال عمر مكرم عبارة مهمة هي: "إن أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلاد يعزلون الولاة حتى الخليفة، والسلطان إذا سار فيهم بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه".
يقول الدكتور "عبد العزيز الشناوي" في كتابه "عمر مكرم": "والحق أن الوجدان الديني والفكر السياسي كانا يتلاحمان، بعضهما من بعض في نفس الزعيم عمر مكرم؛ فهو يردد نظرية إسلامية سياسية مهمة هي حق الشعب في عزل حكامه إذا أساءوا الحكم، وهو يصر على نقل هذه النظرية إلى مجال التطبيق العملي، وكان ترديد هذه النظرية والإصرار على تطبيقها في ذلك الوقت المبكر من القرن التاسع عشر ظاهرتين مهمتين في تاريخ الفكر السياسي في مصر".
كان "عمر مكرم" يصر على استمرار حمل الشعب للسلاح حتى إقرار النظام الجديد، وهو نظام "محمد علي" الذي اختاره الشعب ليكون حاكمًا للبلاد، إلا أن رأي غالبية المشايخ -وعلى رأسهم الشيخ "عبد الله الشرقاوي"- هو أن مسألة إنزال "خورشيد" من القلعة قضية تخص الوالي الجديد. استمرت هذه الثورة المسلحة بقيادة "عمر مكرم" 4 أشهر، وأعلنت حق الشعب في تقرير مصيره واختيار حكامه، وفق مبادئ أشبه بالدستور تضع العدل والرفق بالرعية في قمة أولوياتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم يستول "عمر مكرم" على السلطة على اعتبار أنه قائد الثورة ومحركها، والأقدر على إقامة العدل والرفق بالشعب؟
والواقع أن إجابة هذا التساؤل لا بد أن تعتمد القراءة الثقافية السياسية من منظور ذلك العصر الذي لم ينظر إلى العثمانيين على أنهم غزاة مغتصبون، ولكن كان ينظر إليهم على أنهم حماة للإسلام، ومن ثم فالثورة على "خورشيد" كانت ثورة على الحاكم الظالم بصفته الشخصية وليست ثورة على النظام السياسي، لذلك فإن تولي "عمر مكرم" للحكم من خلال هذه الثورة قد يفسره العثمانيون على أنه ثورة ضد دولة الخلافة، أما اختيار "محمد علي" -وهو من جنس القوم- لتولي حكم مصر فلن يثير غضب الباب العالي بدرجة كبيرة، ومن هنا تتضح حصافة الرجل الذي قال للزعماء صراحة: "لا بد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية".
عدو الرياسة!
صعد "محمد علي" لحكم مصر بتأييد الزعامة الشعبية التي قادها "عمر مكرم" وفق مبادئ معينة في إقامة العدل والرفق بالرعية، وكان من نتيجة ذلك أن تحملت الزعامة المسئوليات والأخطار التي واجهت نظام "محمد علي" الوليد، ومنها أزمة الفرمان السلطاني بنقله إلى "سالونيك"، والحملة الإنجليزية على مصر سنة (1222هـ = 1807م)، وإجهاض الحركة المملوكية للسيطرة على الحكم في مصر؛ ففي هذه الأزمات الثلاث الكبرى كانت زعامة "عمر مكرم" تترسخ في وجدان المصريين؛ إذ رفض مساندة المماليك في تأليب الشعب ضد "محمد علي"، ورفض فرمانات السلطان العثماني بنقل "الباشا" إلى "سالونيك" فاحتمى "محمد علي" به من سطوة العثمانيين، وفي حملة "فريزر" قام "عمر مكرم" بتحصين القاهرة، واستنفر الناس للجهاد، وكانت الكتب والرسائل تصدر منه وتأتي إليه، أما "محمد علي" فكان في الصعيد يتلكأ، وينتظر حتى تسفر الأحداث عن مسارها الحقيقي. أدرك "محمد علي" أن "عمر مكرم" خطر عليه أمام أحلامه في الاستفراد بحكم مصر؛ فمن استطاع أن يرفعه إلى مصافّ الحكام يستطيع أن يقصيه، ومن ثم أدرك أنه لكي يستطيع تثبيت دعائم ملكه وتجميع خيوط القوة في يده لا بد له أن يقوض الأسس التي يستند عليها "عمر مكرم" في زعامته الشعبية.. فعندما أعلن زعماء الشعب عن استعدادهم للخروج لقتال الإنجليز أجاب "محمد علي": "ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر".
كانت العبارة صدمة كبيرة لعمر مكرم؛ إذ حصر دور الزعامة الشعبية في توفير علائف الحيوانات، ولكن حصافة الرجل لم تجعله يعلن خصومة "محمد علي"، وأرجع مقولة "الباشا" إلى أنها زلة لسان، وآثر المصلحة العامة لمواجهة العدوان؛ فقام بجمع المال؛ وهو ما وضعه في موقف حرج مع بعض طوائف الشعب.
وصف "الجبرتي" مكانة "عمر مكرم" بقوله: "وارتفع شأن السيد عمر، وزاد أمره بمباشرة الوقائع، وولاية محمد علي باشا، وصار بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، والمرجع في الأمور الكلية والجزئية". فكان يجلس إلى جانب محمد علي في المناسبات والاجتماعات، ويحتل مركز الصدارة في المجتمع المصري، حتى إن الجماهير كانت تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه.