إن الحقد النصراني على الإسلام والمسلمين والذي امتد عدة قرون بسبب الانتصارات على النصرانية وانتزاع أجزاء واسعة من أملاك النصرانية في بلاد الشام وشمالي إفريقية، وقد كان هذا الحقد مع كل انتصار جديد يحققه الإسلام. ولما كانت النصرانية وأبناؤها عاجزة عن القيام بردّ فعل لذا فقد انتظرت حتى تمر موجة الفتوة الإسلامية ولكن زاد انتظارها وطالت مدة هذا المد الإسلامي فعندما بدأ الضعف يظهر على المسلمين أرادت النصرانية أن تقوم برد الفعل السريع وشجعها على ذلك الخوف من عودة القوة المسلمين بعد الانتصارات التي أحرزها السلاجقة عام 463 هـ في معركة ملاذكرت بقيادة ألب أرسلان، والانتصار في معركة الزلاقة في الأندلس عام 479 هـ بقيادة يوسف بن تاشفين، والانتصارات التي تلتها، فخافت النصرانية من عودة الروح من جديد لتدب في العالم الإسلامي الذي توسع باستمرار وتدخل الإسلام مجموعات محاربة جديدة مثل السلاجقة والمرابطين، وخاصة بعد تدفق السلاجقة في آسيا الصغرى.
وشجعها دخول عناصر بربرية محاربة في النصرانية وهي القبائل التي كانت تنتقل في أوروبا وهذا ما أدى إلى ظهور روح حربية جديدة تدعم النصرانية، ومن هذه المجموعات، المجموعةالجرمانية والمجرية، وإن دخول المجر في النصرانية قد جعل الشعوب النصرانية على اتصال بعضها مع بعض من الغرب إلى الشرق في آسيا الصغرى.
وشجعها بعض الانتصارات التي حصلت عليها الإمارات الإيطالية إذ تغلبت علىأمراء البحر المسلمين الذين كانوا يعيقون عمل السفن الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط إن لم تستجب لمطالبهم، فكانت هذه الإمارات الإيطالية ترغب في نشر تجارتها في البحر المتوسط، وبانتصارها على البحارة المسلمين زاد في رغبتها بل في محاولة إظهار قوتها ومد نفوذها إذ غدت لها قوة في البحر المتوسط تستطيع أن تستفيد منها في نقل جنودها وتحرك سفنها في هذا البحر، ومن الانتصارات التي شجعتها أيضاً احتلال النورمانديين لجنوب إيطالية وجزيرة صقلية وطرد المسلمين منها عام 484 هـ.
وشجعها الضعف الذي حصل على دولة السلاجقة عقب موت السلطان ملكشاه عام 485 هـ فأحبت النصرانية أن تهتبل هذه الفرصة قبل العودة إلى القوة ثانية، وخاصة أن العبيديين الذي هزِموا أمام السلاجقة وتخلوا عن بيت المقدس عام 471 هـ، ورأوا زيادة قوة السلاجقة خصومهم في العقيدة أيضاً لذا قد استنجدوا ببعض أمراء أوروبا لدعهم ضد السلاجقة.
ولعل أهم الجوانب النصرانية التي دفعت بالموضوع هي النفوذ الذي حصل عليه البابا إيربان الثاني الذي اختير بابا لروما عام 481 هـ إذ أصبح السيد المطاع بين الشعوب النصرانية بل وبين الأمراء وهذا ما يجعله أهلاً لأن يستغل نفوذه لدى النصارى ويدعوهم للحرب الصليبية فدعا إلى اجتماع لرجال الدين عام 489 هـ في كليرمونت بفرنسا ودعا إلى الحرب الصليبية ونادى الأمراء بترك الخلافات القائمة بينهم، وقدّم لهم الصليب، وجعل مبرراً لهذه الحرب ما يقوم به السلاجقة من مضايقة للحجاج النصارى الذين يريدون بيت المقدس، وطلب أن يحتل النصارى بيت المقدس، وساهم بهذه الدعوة بطرس الناسك، وسار بجموع المتطوعين وسبق جيوش الأمراء النصارى النظامية، ولما كان هؤلاء المتطوعون يسيرون بلا نظام فقد سببوا الفوضى والدمار لكل المناطق التي مروا عليها حتى النصرانية منها وحتى شكا منهم إمبراطور القسطنطينية، وعندما وصلوا إلى بلاد المسلمين صبّوا جام غضبهم فأهلكوا الزرع والضرع، وأحرقوا الأخضر واليابس، وعاثوا في الأرض الفساد، وقتلوا ومثّلوا وانتهكوا من الحرمات ما شاء لهم هواهم أن يفعلوا ذلك، وتصدى لهم السلاجقة فالتقوا في نيقية فأفنوهم عن بكرة أبيهم عام 489. وكان إمبراطور القسطنطينية قد أراد أن يتقي شرهم فساعدهم إلى السير إلى آسيا الصغرى والتقدم إلى نيقية.
في هذه الأثناء كانت جيوش الأمراء النظامية تتحرك نحو القسطنطينية وقد أمر البابا أن تجتمع خارج أسوار القسطنطينية، ولم تكن هذه الجيوش أقل حقداً من الأولى وأقل فساداً ودماراً، كما لم يكن لها قائد واحد ينظمها ويصدر أوامره لها جميعاً، وإن كان لهاعدد من القواد أغلبهم من فرنسا، ولم يكن لهؤلاء القادة خطة واحدة، ولم يشترك ملوك أوروبا في هذه الحملة لأن ملوك نصارى الأندلس كانوا مشغولين بقتال المسلمين، ولأن ملك فرنسا فيليب الأول وملك ألمانيا هنري الرابع كانا مطرودين من رحمة الكنيسة. بلغ عدد المشتركين النصارى في هذه الحملة التي عرفت باسم الحملة الصليبية الأولى أكثر من مليون، غير أن عدد المقاتلين لم يزد على ثلاثمائة ألف والباقي إنما هم من المرافقين من الرجال والنساء.
وصلت هذه الحملة الصليبية إلى أبواب القسطنطينية وخاف إمبراطورها منهم فاتفق مع بعض القادة على أن يمدهم بالمؤن والذخيرة على أن لا يدخلوا المدينة وأن يردّوا عليه ما يستولون عليه من أملاكه، فاجتازوا البوسفور، ووصلوا إلى نيقية فحاصروها، ونقل أميرها قليج أرسلان مقره إلى قونية، واتفق مع الإمبراطور أن يدخل جنده نيقية دون القادمين من أوروبا وبهذا غضب الصليبيون لأن الإمبراطور بهذا التصرف لم يسمح لهم بنهب المدينة وبهذا يكون الإمبراطور البيزنطي قد دعم الصليبيين بكل قوته وسار معهم نحو نيقية، وحصل خلاف بين الصليبييين القادمين من أوروبا والبيزنطيين إذ وجد الإمبراطور أنه لا يستطيع التفاهم مع هؤلاء القادمين فانصرف لاسترداد آسيا الصغرى من السلاجقة فاتجه نحو الغرب ودخل إزمير وأفسوس وأخذهما من أمراء السلاجقة فيهما لانقطاعهم عن دولة السلاجقة، ولم يعد يدعم الصليبيين بل حرص أن يضم له ما أخذوه هم، فكان دعمه بقتال المسلمين بجهات ثانية ثم بعد مدة عادة لتقديم الدعم.
اختلف القادة الصليبيون بعضهم مع بعض، فاتجه بعضهم إلى الرها تلبية لدعوة أميرها فدخلها وأسس بها إمارة نصرانية لاتينية وكان يطمع بتأسيس دولة صليبية في أرمينيا وقد دعمه في الأمر الأرمن. وسار باقي القادة إلى أنطاكية فألقوا الحصار عليها ودخلوها عنوة عام 491 هـ بعد حصار دام سبعة أشهر وقتلوا من أهلها أكثر من عشرة آلاف، ومثلوا بالقتلى وبالناس، وفعلوا أبشع الجرائم، وولوا عليها أحدهم وقد استقبل النصارى من أهلها والأرمن الصليبيين بكل ترحاب، ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم "كربوقا" صاحب الموصل، وصاحب دمشق "دقاق"، وصاحب حمص "جناح الدولة" غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم ودخلوا معرة النعمان، ووصلوا إلى بيت المقدس ودخلوها عام 492 هـ فقتلوا من أهلها أكثر من سبعين ألفاً وخاضت خيولهم ببحر من الدماء، وانتخب غودفري ملكاً على بيت المقدس، وأخذ لقب حامي قبر المسيح. وكان العبيديون قد استغلوا تقدم الصليبيين من الشمال فتقدموا هم من الجنوب ودخلوا القدس وطردوا السلاجقة منها (قبل وصول الصليبيين إليها) وجرت مفاوضات بين الأفضل بن بدر الجالي الوزير العبيدي وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبيها للعبيديين ثم نقض الصليبيون العهد عندما شعروا بالنصر.
لقد فقدت هذه الحملة أكثر مقاتليها، فقد جاءت بثلاثمائة ألف مقاتل، ودخلت إلى القدس بأربعين ألف مقاتل فقط، ومهما بالغنا بعدد المقاتلين الصليبيين الذين ساروا إلى الرها فإن عددهم لا يزيد على أربعين ألفاً، وبذا يكون عدد من بقي من الصليبيين الذين جاءوا في الحملة الأولى ما يقرب من ثمانين ألفاً، ويكون قد فقدوا مائتين وعشرين ألفاً، قتِلوا في المعارك، وقتِلوا على أيدي الناس الذين كانوا يثورون على تصرف هؤلاء القادمين، يثورون على كره، ورغم خوفهم الشديد، ورغم معرفتهم بمصيرهم، يثورون لأن تصرّف الصليبيين كان على درجة من السوء والوقاحة والقباحة ما يثير أية نفس مهما بلغ بها الذل والخوف.
وبسيطرة الصليبيين على بيت المقدس ارتفعت معنويات سكان الإمارات الإيطالية فبدأت سفنهم تجوب أطراف البحر المتوسط وتقدم المساعدات والدعم للصليبيين، فاستطاعوا أن يأخذوا حيفا وقيسارية عام 494 هـ، وأخذوا عكا عام 497 هـ، وأخذوا طرابلس عام 503 بعد حصار سنتين، كما أخذوا جبلة في العام نفسه، ثم أخذوا صيدا عام 504. وطلب المسلمون هدنة فرفض ذلك الصليبيون ثم وافقوا مقابل مبالغ كبيرة يدفعها لهم المسلمون، وبعد أن استلموا الأموال غدروا بالمسلمين وذلك عام 504 هـ. وحاصر الصليبيون مدينة صور عام 505، وكانت بيد العبيديين فأمدهم بالمؤن والمساعدات طغتكين صاحب دمشق فامتنعت صور عن الصليبيين.
أما من جهة الداخل فقد جاء الصليبيون من جهة الجنوب فالتقى بهم صاحب دمشق "أمين الدولة" وهزمهم ولاحق فلولهم الذين وصل بعضهم إلى ملاطية وقد استطاع أن يدخلها وأن يتملكها وذلك عام 493.
وهاجم الصليبيون دمشق من جهة الشمال عام 497 ولكنهم هزِموا وأسِر أمير الرها الصليبي، غير أنهم استطاعوا في العام نفسه أن يدخلوا حصن أفاميا.
لقد دعم العبيديون الصليبيين في أول أمر، ووجدوا فيهم حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومهم، وقد ذكرنا أنهم اتفقوا معهم على أن يحكم الصليبيون شمالي بلاد الشام ويحكم العبيديون جنوبيها، وقد دخلوا بيت المقدس، غير أن الصليبيين عندما أحسوا بشيء من النصر تابعوا تقدمهم واصطدموا بالعبيديين وبدأت الخلافات بينهم، فالعبيديون قد قاتلوا الصليبيين دفاعاً عن مناطقهم وخوفاً على أنفسهم ولم يقاتلوا دفاعاً عن الإسلام وحماية لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام.
لقد استقبل سكان البلاد من النصارى والأرمن الصليبيين استقبالاً حاراً ورحبوا بهم ترحيباً كبيراً، وقد ظهر هذا في أثناء دخولهم أنطاكية وبيت المقدس، كما قد دعموهم في أثناء وجودهم أيام وجودهم في البلاد وقدّموا لهم كل المساعدات، وقاتلوا المسلمين، وكانوا عيوناً عليهم للصليبيين.
وتشكلت أربع إمارات صليبية في بلاد الشام وهي:
إمارة في الرها – إمارة في طرابلس – إمارة بيت المقدس – إمارة أنطاكية.
لم يجد الصليبيون الأمن والاستقرار في بلاد الشام في المناطق التي سيطروا عليها وشكلوا فيها إمارات رغم انتصارهم، إذ كان السكان المسلمون ينالون منهم كلما سنحت لهم الفرصة، كما يغير عليهم الحكام المسلمون في سبيل إخراجهم من البلاد، ودفاعاً عن عقائدهم ومقدساتهم التي كان الصليبيون ينتهكونها.