من حيث النشأة تعتبر الإسماعيلية من أحدث المدن المصرية ، إذ نشأت مع أفتتاح قناة السويس في 16 نوفمبر 1869 م ، في عهد الخديوي إسماعيل الذي أخذت أسمه ، وماتزال بعض أحيائها وشاوارعها بطرازها الأوروبي وعلى النسق الفرنسي بشكل خاص في هندسة تصميم المدن والتخطيط العمراني تعكس إلى اليوم ، ملامح من مشروعه الطموح بتحديث مصر .
ومن حيث التكوين الأجتماعي أو التركيبة السكانيه ، فإن الإسماعيلية تكونت من خليط شكلته ثلاث موجات أو تكتلات أو هجرات رئيسية ، تدفقت في وقت واحد متزامنة مع أفتتاح قناة السويس ، وظهور المدينة الجديدة على شاطىء بحيرة التمساح التي كانت بحاجة إلى سكان يصنعون مقومات الحياة اليومية . أولى هذه الموجات كانت قد جاءت مع بداية أعمال حفر قناة السويس من الجنوب والمدن في صعيد مصر ، وهؤلاء الذين شاركوا في حفر القناة وسرعان ما وجدوا أنفسهم عقب أنتهاء أعمال الحفر ، وأفتتاح قناة السويس للملاحة الدولية ، أمام خيار البقاء في المدينة الجديدة منخرطين في أعمال وحرف تتطلبها حاجات الحياة والمعاش اليومي للمدينة ، مفضلين ذلك على العودة إلى منابع هجرتهم في صعيد مصر .
الهجرة الثانية جاءت من شمال الدلتا وتكونت من الصيادين في المناطق التي تطل على بحيرة المنزلة ، والذين وجدوا في المجرى المائي للقناة الجديدة ، مورداً جديداً للرزق ، فنزحوا بعائلاتهم إلى الإسماعيلية ليكونوا مجتمعاً يقوم على صيد الأسماك والتجارة فيها .
وجاءت الهجرة الثالثة من وسط الدلتا ، ومن مدينة الزقازيق تحديداً ، حيث كانت منذ بداية أعمال حفر القناة المركز الرئيسي الذي يستقبل الفلاحين الراغبين بالعمل في حفر القناة ، والمحطة الرئيسية التي يتجمع فيها العمال القادمون من مختلف أنحاء الصعيد ، قبل أن يتوجهوا إلى منطقة الحفر . وبحكم الجغرافيا ، التي جعلت الإسماعيلية أقرب مدن القناة إلى مدينة الزقازيق والقرى حولها ، فقد ظلت الزقازيق وإلى اليوم تشكل المصدر الرئيسي لكافة الهجرات القادمة إلى الإسماعيلية ، حيث جاءت منها موجات هجرات متتالية ، خصوصاً في أعقاب حروب 1948 ، و1956 ، و1973 ، إذ كانت الإسماعيلية – ولاتزال – المدينة الجاذبة للكثيرين من سكان محافظة الشرقية بما تتيحه من فرص العمل والوظائف .
الإسماعيلية مدينة حديثة النشأة ولايزيد عمرها على 140 عاماً ، إلا أنها مدينة لها تاريخ ، صنعته الجغرافيا التي فرضت على الإسماعيلية دوراً نضالياً متميزاً في التاريخ المصري الحديث والمعاصر ، وعلى الرغم من أنها كانت بحكم نشأتها وبحكم التركيبة السكانية مدينة مفتوحة ، ومنفتحة إجتماعياً وثقافياً – وبالمعنى الحضاري الواسع – إذ كانت نقطة تلاق بين المصريين وعديد من الجنسيات الأجنبية ، وحيث عاش فيها عشرات اليونانين وأصبحوا من أبنائها ، إلا أنها كانت تتوجه بمشاعر العداء ضد قوات الأحتلال الإنجليزي ، وكان الجندي البريطاني يمثل لأبناء الإسماعيلية " الآخر" المحتل والمعتدي والظالم .
لقد عاش الأجانب وخاصة اليونانين والفرنسيين والبريطانيين في الإسماعيلية كأنهم من أبنائها ، وكان الكثير من المتاجر ومحلات البقالة وبعض المطاعم يمتلكها أجانب يتكلمون العربية كأنهم مصريون . ولم يكن أبناء الإسماعيلية يعاملونهم بأعتبارهم أغراباً أو أجانب ، بل أعتبروهم دائماً جزءاً أو بعضاً منهم .
الأمر بالنسبة للإنجليز كان مختلفاً ، لأنهم مثلوا دائماً رمزاً للظلم والطغيان والأحتلال الذي كانت معسكراته وثكناته تنتشر على أطراف المدينة من جهاتها الأربع ، بل وتجثم على صدور سكان المدينة وفي قلبها .
من هنا ، لم يكن غريباً أن تنتفض الإسماعيلية في 8 أكتوبر 1951 ، تأييداً للزعيم مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر آنذاك ، عندما أعلن إلغاء معاهدة 1936 التي ربطت مصر بزواج كاثوليكي مع بريطانيا ، كما أعلن إالغاء الأمتيازات الأجنبية ، فأنطلقت من الإسماعيلية أول إشارة للتأييد الشعبي الواسع الذي أيد قرار الزعيم المصري الكبير ، إذ تحركت أول مظاهرة شعبية تأييداً للقرار ، من مدرسة الإسماعيلية الثانوية في اليوم التالي ( التاسع من أكتوبر 1951 ) ةأنطلقت من أمام المدرسة تضم طلابها وطلاب عدد من المدارس الإعدادية المحيطة بها في أحد الأحياء العربية بالمدينة ، وهو حي عرايشية مصر ، وألتقت بالمظاهرة جموع من العمال والموظفين عند ميدان السكة الحديد ( الأن ميدان عرابى ) حيث وقعت مصادمات بين قوات الأحتلال الإنجليزي والمتظاهرين ، وسقط فيها عدد من الضحايا وأسفرت عن أصابات لحقت ببعض أبناء المدينة وطلابها .
ولم تسكت المدينة ، بل نظمت مظاهرة أخرى في السادس عشر من أكتوبر 1951 ، وفي ميدان السكة الحديد وقعت مصادمات واسعة عندما تصدى العساكر الإنجليز للمظاهرة ، وأتسعت الأحتجاجات التي أتجهت صوب ثكنة ( النافي ) أحد مراكز قيادة الجنود الإنجليز في المنطقة ، وراح المتظاهرون يرفعون العلم المصري فوقها ، وواجهها الإنجليز بالبنادق والرصاص ، حيث قتلوا عدداً من الطلاب والمواطنين الذين شاركوا في المظاهرة ، ولجأ الإنجليز إلى تقسيم المدينة ، خوفا من أتساع المظاهرات وأنضمام أبناء الأحياء العربية إلى المظاهرة ، وفرضوا طوقاً أمنياً حول حي المحطة الجديدة ، حيث صنعوا عازلاً في شارع الثلاثيني ( الجمهورية الأن ) بين الحي العربي ، وحي الأفرنج الذي وقعت به المصادمات منعاً لأتساع المظاهرات .
16 أكتوبر 1951 هو اليوم الذي أنطلقت فيه حركة الكفاح المسلح ضد الأحتلال الإنجليزي ، بعد أن تأكد للجميع أن طريق المفاوضات وأنتهاج السبل السلمية في الحوار مع البريطانيين من أجل الأستقلال " ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً " حسب التعبير الذي أطلقه الزعيم سعد زغلول وأستمر إلى ذلك الوقت – لم يعد مجدياً ومنذ ذلك اليوم ، تدفقت على الإسماعيلية وبقية مدن القناة ، كتائب الكفاح المسلح التي ضمت فدائيي من كافة الأطياف السياسية في مصر ، من الأخوان المسلمين والشيوعين إلى الوفديين مروراً بمختلف التيارات والقوى الوطنية .
وشهدت مدن وقرى كالمحسمة وأبو صوير والقصاصين والتل الكبير معارك " أستنزاف " لقوى الأحتلال البريطاني ومعسكراته ، وساهم أبناء الإسماعيلية في هذه المعارك ، وقدموا أمثلة عديدة لقدرتهم على التضحية والأستبسال في سبيل حرية مصر واستقلالها .
ويزخر سجل التاريخ الوطنى لأبناء الإسماعيلية بمعارك الشرف والكرامة ، ولعل من أبرز الكتب التي سجلتها كتاب المؤرخ المصري الراحل عبد الرحمن الرافعي " مقدمات ثورة 23 يوليو " .
وأيام الإسماعيلية الوطنية والتاريخية عديدة ، وإذ كان 16 أكتوبر 1951 بداية لحركة الكفاح المسلح ضد الأحتلال الإنجليزي ، فإن يوم 25 يناير 1952 كان ذروة ما وصل إليه هذا الكفاح ، حيث قامت معركة غير متكافئة بين قوات الأحتلال الإنجليزي وقوات الشرطة في مبنى محافظة الإسماعيلية ، عندما طلبت قوات الأحتلال من رجال الشرطة إلقاء بنادقهم وتسليم مبنى المحافظة ، ورفض رجال الشرطة الإذعان للمطلب الإنجليزي وأيدهم في موقفهم وزير الداخلية في ذلك الوقت فؤاد سراج الدين وأستمر حصار القوات البريطانية لمبنى المحافظة يوماً كاملاً ، حيث أصر الجنود المصريون ببنادقهم القديمة على أن يدافعوا عن المبنى ، ورفضوا تسليمه ، وأسفر القتال غير المتكافىء عن سقوط عدد كبير من شهداء رجال الشرطة .
وفي اليوم التالي 26 يناير 1952 ، شهدت مصر حريق القاهرة الذي أعقبه فرض القوانين العرفية ، في تعبير عن أزمة النظام السياسي آنذاك ، ودخول النضال الوطني ضد الأحتلال الإنجليزي مرحلة جديدة كانت مقدمة لـ " 23 يوليو 1952 "
Admin Admin
المساهمات : 490 تاريخ التسجيل : 12/09/2007
موضوع: رد: قصة مدينة السبت فبراير 16, 2008 1:58 pm
إذن ، فقد شاركت الإسماعيلية في الحركة الوطنية المصرية ، وسجلت في التاسع والسادس عشر من أكتوبر 1951 م – موقفاً نوعياً متميزاً في حركة الكفاح المسلح ضد الإحتلال الإنجليزي ، وكان اليومان " الأوكتوبريان " عن حق – الشرارة الحقيقية التي أنطلقت معها حركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز .
وتستمر مشاركة أبناء الإسماعيلية – بجميع فئاتهم وشرائحهم الإجتماعية – في النضال والمقاومة ، حتى أرغم المصريون الأمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس ، على سحب قوات الإحتلال ، بعد توقيع معاهدة الجلاء ، وعندما تفشل المؤامرة الإنجليزية الفرنسية المتمثلة في إنسحاب المرشدين الأجانب الذي يعملون في إرشاد السفن ، وينظمون حركة مرورها داخل قناة السويس ، وتنكشف محاولتهم التآمرية لتعطيل الملاحة في قناة السويس ، عقب قرار تأميم القناة الذي أتخذه جمال عبد الناصر في يوليه 1956 ، ويبدأ العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر 1956 م ، بتحالف إنجليزي فرنسي إسرائيلي يحتل سيناء ، ويقتحم مدينة بورسعيد ، يبادر أبناء الإسماعيلية إلى تشكيل كتائب الحرس الوطني ، وينطلق الفدائيون في الحيين العربيين ( المحطة الجديدة وعرايشية مصر ) إلى حمل السلاح ، دفاعاً عن بورسعيد ، وتتجه تشكيلات منهم إلى المدينة الباسلة ، بينما تبقى تشكيلات أخرى في الإسماعيلية ، تحسباً لأي هجوم قد تشنه قوات الغزو الثلاثي على الإسماعيلية ، ويضرب أبناء الإسماعيلية مثلاً جديداً في الأستعداد للتضحية والموت دفاعاً عن مصر ، وتستمر المقاومة حتى يقف العالم كله ضد المؤامرة ، ويوجه الأتحاد السوفيتي إنذاراً للدول المعتدية ويطالبها بالأنسحاب ، وتقف دول كتلة عدم الإنحياز ، وفي مقدمتها الهند ويوغسلافيا ضد مؤامرة الغزو ، وتتدخل الولايات المتحدة التي كانت سحبت عرضاً لتمويل مشروع مصر لبناء السد العالي ، وتطالب إنجلترا وفرنسا وإسرائيل بسحب قواتها ، وتنسحب القوات المعتدية من مدينة بورسعيد في 23 ديسمبر 1956م .
وتدور عجلة الزمن دورتها ، وتتدفق في مجرى النهر مياه جديدة ، وعندما تبدأ نذر حرب أخرى وتتصاعد حدة التوتر بين إسرائيل وسوريا ، وتتدخل مصر ( العربية ) دفاعاً عن سوريا ، وتتزايد الإرهاصات بوقوع الحرب في منتصف مايو 1967م ، يتجه أبناء الإسماعيلية ، رجالاً وشباباً ونساءً وشيوخاً إلى التدرب على حمل السلاح ، وتتشكل كتائب المقاومة الشعبية ، وتتحول ساحات المدارس ( خاصة مدرسة الإسماعيلية الثانوية ، ومدرسة الإسماعيلية الإعدادية ) إلى مراكز لتسجيل وتدريب المتطوعين والراغبين في حمل السلاح ، وأستعد أبناء الإسماعيلية لدور في معركة لم يكتب لهم – ولا حتى لجنود جيشهم – أن يخوضوها ، إذ حسمها الجيش الإسرائيلي في الثامنة والنصف من صباح 5 يونيه 1967 ، وقبل أن تبدأ الحرب .
أخطأت العسكرية المصرية ، وأخطأت السياسة ودفع المصريون الثمن ، وأخطأ قادة الجيش وأخطأ السياسيون ، ودفع الشعب تكاليف " الفاتورة " وأعبائها الباهظة .
ومع ذلك ، لم تهدأ مطابخ الغضب في صدور المصريين ، ولم تنطفىء نيران الثأر في أكبادهم ، وفي مقدمتهم بالطبع أبناء الإسماعيلية – الذي عاشوا المأساة وكانوا أول ضحاياها ، وكان على المصريين أن يلملموا جراحهم ، وأن يجمعوا إرادتهم ، وكان عليهم أن يدفنوا شهدائهم وأمواتهم ، وأن ينهضوا ، غير أن فتيات جيش الإحتلال الإسرائيلي أصبحن يتحدين إرادة المصريين ، إذ صار " الإسماعيلاوية يرونهم بالعين المجردة ، وهن ينزلن بأقدامهم للسباحة في مياه قناة السويس ، مع زملائهن من جنود الإحتلال ، في إذلال متعمد للكبرياء المصرية .
وإلى ذلك راحت قوات الإحتلال الإسرائيلي تستعرض قدرتها ، وربما راحت تتسلى بتوجيه فوهات مدافع الهاون والهاوتزر ، لتصب قنابلها وقذائفها على المدنيين العزل من السلاح ، وعلى البيوت والمستشفيات والمصانع ، بل على المساجد والكنائس أيضاً ، في مدن القناة الثلاث ، وخاصة الإسماعيلية والسويس ، جيش نظامي خرج منتصراً في حربه مع ثلاث جيوش عربية ، يوجه نيران مدافعه ضد المدنيين الذين لايفصلهم عنه سوى حاجز قناة السويس .
وتكررت الإعتداءات والضربات ، التي شكلت إمعاناً في إذلال المصريين ، وكسر إرادتهم ، وكان من ضحاياها أعداد من المدنيين ، أطفالاً ورجالاً ونساءً وشيوخاً ، وتهدمت بيوت ومساجد وكنائس ومدارس ومصانع ، وكلما مارس الإسرائيليون وحشيتهم ، تزايدت أعداد الضحايا ، وزادت الخسائر ، وبدا أن الإسرائيليون يسعون إلى الأحتفاظ بالمدنيين في مدن القناة ، رهائن يضغط بها على اي أمل مصري في المقاومة .
وعاش أبناء الإسماعيلية أياماً صعبة ، بنهارها ولياليها الطويلة ، تحت سطوة وعربدة الإحتلال الإسرائيلي للأرض المصرية ، ولاينسى أبناء الإسماعيلية اياماً من يوليو وأغسطس وسبتمبر 1967م ، لاتزال تحتفظ بها ذاكرتهم ، ولاتنسى ذاكرة التاريخ استخدام الإسرائيلين لأسلحة محرمة وممنوعة دولياً ، ضد المدنيين الذين قتلتهم قنابل " النابالم " على الطرق التي تربط الإسماعيلية بمحافظات القاهرة وبورسعيد والشرقية والسويس .
وكان لابد لصاحب القرار – الذي صمم على النار ، والذي رأى أن ما أخذه الإسرائيليون بالقوة ، لن يسترد بغير القوة – أن ينتزع من العدو ورقة الضغط التي يلعب بها ، وعقب ضربة قوية لمدينتي الإسماعيلية والسويس في أواخر سبتمبر 1967 ، أتخذ جمال عبد الناصر قرار بتهجير سكان المدن الثلاث ، في إشارة إلى أستعداده لحرب طويلة الأمد مع العدو الصهيوني ، وبداية حرب التحرير الوطنية .
وهكذا .. كان على أبناء الإسماعيلية أن يتركوا الأرض التي عاشوا فوقها أيام طفولتهم ، وشهدت ملاعب صباهم ، وأحلام شبابهم ، وتفرقت الأسر ولاعائلات ، وأنفرط عقد الصداقات ، فساحوا في محافظات مصر ، من الشرقية إلى الإسكندرية وأسوان ، وبقى منهم جماعات من الشباب ، تمسك بعضهم بالأرض والمقاومة ، عن أيمان حقيقي ، ورغبة في أن يكون بقائهم على أرضهم " رسالة " و " رمزاً " للمقاومة ، بينما كان البقاء بالنسبة للبعض تعبيراً عن رغبات وتطلعات " شخصية " !
نحو ست " سنوات " عاشتها الإسماعيلية في شوق لأبنائها الذين أنخلعوا عنها ، وعاش أبناؤها يعانون أشواق غربتهم بعيداً عنها ، وراح أبناء الإسماعيلية يعبرون عن التجربة التي أطلقت أصواتهم " شعراً " يتفجر حباً للوطن ، صارخاً بالحنين إلى " الأرض " رافعاً راية التحريض على المقاومة ، وتطهير التراب الذي يدنسه الإسرائيليون ، وراح الشعراء يبشرون بيوم النصر الآتي من رحم الهزيمة ، والضياع ، ويطلقون كلماتهم رصاصات وقنابل ، تتوحد مع كلمات الآذان في مآذن المساجد ، وأجراس الكنائس " على هدير المدافع .. عللي الأدان عللى " و " مهما طال الوقت على .. أنا راجع يا أسماعيلية " .. وغيرها من قصائد العامية والأغاني التي عبرت عن روح المقاومة ، وراحت تشكل – مع حرب الأستنزاف التي شنها المصريون على مواقع الإسرائيليين في سيناء – فضاءً مصرياً جديداً ، تلوح في أفقه علامات عودة " النورس " إلى شاطىء قناة السويس .
ولقصائد حافظ الصادق وحسن الجداوي والسيد أبو العنين وصالح أبو زيد ، وألحان عبد العثمانلي ، وغيرهم من ألبطال الحقيقيين الذين أحبوا الإسماعيلية ، وغنوا لها ، وغنوها خلال تلك الفترة الصعبة والثرية – قصة تحتاج إلى وقت ، وأوراق ، وحكاية أخرى .
إلا أنه من المهم أن نسجل هنا في إحدى القصص الموازية – التي يجب أن نعود إليها في يوم ما – أن الشباب من أبناء الإسماعيلية ، الذين تركوها طلاباً في الثانوية العامة ، أو على مشارف الجامعات ، راحوا – وبتأثير الشروخ النفسية التي أصابتهم بها الهزيمة – يشكلون رافداً مهماً من روافد الحركة الوطنية الديمقراطية ، التي تفجرت بالعديد من المطالب والتوجهات ، رداً على هزيمة يونيه 1967 .
وشارك بعض هؤلاء الطلاب في قيادة الحركة الوطنية الديمقراطية داخل الجامعات ، خصوصاً جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية ، من خلال الاتحادات الطلابية ، أو من خلال نظام السر التي كانوا هم أول من أبتدعوها ، في رد عملي على حالة " الشتات " التي وجدوا أنفسهم محاصرين فيها بعد التهجير ، وفي محاولة منهم للتجمع والتوحد والانصهار داخل أوعية تحافظ لهم على انتماءاتهم " الضيقة " ، ولكن من دون أن تنسيهم أنتماءهم الأكبر لمصر والحركة الوطنية الديمقراطية ، وشارك هؤلاء بفعالية في حركة فبراير ونوفمبر 1968 ، ثم أتسع دور بعضهم – وفي الحقيقة إلى جانب زملاء لهم من الطلاب أبناء السويس وبورسعيد – ليصب في مجرى الحركة الوطنية الديمقراطية ، التي راحت تكبر وتتسع خلال تلك السنوات ، لتتفجر في يناير 1972 ، من كليتي الأداب والهندسة والأقتصاد والعلوم السياسية في وقت واحد .
تلك قصص مهمة من قصص سنوات الحرب والغربة ، وهي تحتاج إلى صفحات أخرى ، لكى نحكي بعض وقائعها ، في إطارها وسياقها التاريخي ، لأنها إسهام " نوعي " مهم لأبناء الإسماعيلية ، في لحظة فريدة من التاريخ المصري الحديث والمعاصر ، على أنه من المهم هنا ، أن نشير إلى أن قصة السنوات الست العجاف ، تحتاج إلى معالجات أخرى ، من زوايا وأبعاد مختلفة ، وتحتاج إلى نظرة منصفة .
في أكتوبر 1973 أتخذ الرئيس الراحل محمد أنور السادات قراره الشجاع بالحرب ، وأنطلق أبناء مصر باتجاه الضفة الغربية من قناة السويس ، يحررون الأرض التي طالت أشواقهم أليها ، وأنتصروا .
وعاد أبناء الإسماعيلية إلى أرضهم ، وأرتفعت رايات النصر على شاطىء قناة السويس ، وغنى المطربون والمطربات للسفن التي عادت إلى المرور في القناة ، وأعطى أنور السادات إشارة المرور من اليخت الذ اصطحب فيه ابن شاه ايران محمد رضا بهلوى ، في يونيه 1975 ، الذي أصبح يوماً أو عيداً وطنياً للإسماعيلية ، قبل أن يعود " الإسماعيلاوية " إلى يومهم الوطني الحقيقي ( ذكرى 16 أكتوبر 1951 ) الذي أختاروه بإجماع ، وقبل أن يعبث به العابثون مرة أخرى ، ليختاروا ( 25 يناير ) يوماً بديلاً ، وتلك قصة أخرى .
وكما يكون لكل حرب ضحايا وشهداء ، ولكل حرب أنتهازيون وأغنياء ، كان لحرب أكتوبر المجيدة ضحايا وشهداء ، وأغنياء وأنتهازيون وأثرياء ، وكان لها لصوص سرقوا لحظة النصر ..